الإنقسام الوطني عام 1958 بقلمي /

إنّ مشروع بناء الدولة اللبنانية الحديثة لم يكن على قدرالآمال التي إستند إليها الشعب اللبناني طوال عقود من الزمن ، ودخول اللبنانيين مرحلة جديدة من عُمر وطنهم ، هذا وقد فرض النظام السياسي الجديد عليهم دخـولاً طائفياً ، إذ لم تعترف الدولة بالمواطن كونهُ جزءاً منها بذاته ، بل ، فرضت عليهم الإنتماء الطائفي لتعترف بهم ، على اعتبار علاقة الفرد بالدولة من خلال إنتمائه الطائفي والمذهبي وليس من خلال إنتمائه الوطني ، وإعتبار علاقة المواطن بالدولة ومؤسساتها علاقة غير مباشرة ، أي مروراً بجسم وسيط هو "الطائفة" ، فمشروع بناء دولة الإستقلال لم يلحظ مُشاركة كُل الفئات اللبنانية ، إذ إستمرت فئة من اللبنانيين المنتمين إلى طائفة مُعيّنة ( المارونية السياسية ) في احتكار مُقدرات الدولة ، والإمساك بدائرة القرارالسياسي لها ، مع مشاركة ضعيفة وخجولة من الآخرين ، هذا ما أبقى البلاد في هزّات سياسية وحتى أمنية متتالية ، أمام الإستحقاقات الإنتخابية وغيرها في لبنان ، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى محاولات الطائفة الشيعية بالمشاركة في الحياة العامة ، وهو ما كان يصطدم بسياسة النظام السياسي اللبناني القائم آنذاك ، الذي فضّل المحافظة على رموز الطائفة والعائلات التقليدية ، ولاحقاً تمّ تسميتُهم بالإقطاع السياسي العائلي ، أنّ الدولة اللبنانية فرّقت الشعب عامودياً بإعتمادها الطائفية السياسية ، وبالتالي منعت وأعاقت بناء الوحدةُ الوطنية المرتكزة على الثوابت الوطنية والعيش المُشترك ، ففشلت الصيغة الطائفية في بناء مواطنية لبنان ، وبالتالي في بناء الوطن بأكمله ، إذ لا وطن بدون مواطن ، ولا مواطن بدون مواطنية تشدّهُ إلى مواطنيه بالتضامن والولاء والتضحية معاً في سبيل وحدة لبنان .
لذلك تبقى الدولة تشهدُ من صراعات على السلطة من بعض رموز الطائفية السياسية والإقطاع السياسي العائلي المُتحكّم ، حتى وصلت الأحداث الدامية إلى حوادث كادت تطيح بلبنان كياناً وشعباً ومؤسسات ، ما بعد تشكُّل الدولة الحديثة عام 1943 بهزات إرتدادية أمنية عنيفة ، وتارة بربطها في سياسة المحاور الإقليمية والعربية والدولية ، حتى اندلعت أحداث ثورة 1958 وكانت تُنذر بالخطر الفعلي من إنقسامات حادّة وأُفقية ، أي قبل مجيء الإمـام السيّد موسى الصدر إلى لبنان ، إلى التنوع والتعدد في الحراك الشيعي الذي كانت تحكمهُ العائلات الكبرى ، والتي شكّلت رأس هرم السُلطة والزعامة الشيعية العائلية ، يليها رؤساء العائلات الأدنى جاهاً ونفوذاً وسيطرة ، يليهم بعض رجال الدين الذين تحالفوا مع هذا الزعيم أو ذاك ، والمثقفون الشيعة فلم يكن لهم أدنى نفوذ أو هيبة أو دور في تلك المرحلة ، وهم كانوا على كل حال أقليّة من الصحافيين والكتّاب ، لا قوة سياسية وشعبية لديهم ، الأمر الذي يُفسّر إندفاع الكثيرين منهم إلى الدخول في الأحزاب القوميـة واليسارية التقدمية ، كالحزب الشيوعي خصوصاً ثم حزب البعث وحركة القوميين العرب ، في حين دخلت عائلات كانت ترى نفسها جديرةٌ بالزعامة ، في الحزب السوري القومي ، مثل عشائر بعلبك والعائلات الجنوبية .
أما الأطراف الشيعية في ضاحية بيروت الجنوبية وبلاد جبيل والبترون وبعض قرى جبل لبـنان ، فقد شكّلت خزاناً للواردين إلى وظائف الدولة اللبنانية عبر المارونية السياسية المُتحكّمة بالعائلات الإقطاعية والذين يعتمدون على الزبائنية الخاصة بالزعماء السياسيين لتلك المناطق ، وهم كانوا في الغالبية ينقسمون ما بين التيارين الشمعوني والجنبلاطي في الجبل والضاحية الجنوبية " أو بين الكتلوُي والدستوري في بلاد جبيل . عشية ثورة 1958 كان الإنقسام السياسي الحاد في البلاد قد بلغ ذروته ومـداهُ ما بين تيار مؤيد للجمهورية العربية المتحدة "وحـدة مصر وسوريا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر" وتيار مؤيد لحيّاد لبنان بدعم غربي أولاً ، وبتحالف مع العرب المعتدلين ثانـياً ، "حلف بغداد والعلاقة مع العراق والأردن " وفي مطلع عام 1957 أيّدت حكومة الرئيس سامي الصلح مبدأ "إيزنهاور" ، وفيه إلتزامات تجاه الغرب وأميركا وضُدّ الإتحاد السوفياتي المُنطلق والمؤثر في منطقة الشرق الأوسط ، بعد أن كان الرئيس كميل شمعون ، قد سار بالبلاد في إتجاه الأحلاف الغربية والأميركية منذ مطلع 1954 وفي نيسان 1957 إستقال أحمد الأسعد من حكومة سامي الصلح ، ليعزز الإنقسام الشيعي بين موالاة ومعارضة ، وذلك قبيل الإنتخابات التي دعا إليها الرئيس كميل شمعون في حزيران من نفس العام .
في حين تشكّلت لوائح الموالاة من رموز العائلات الشيعية الكُبرى ، حيث خاضت الإنتخابات ، التي فازت فيها الموالاة طبعاً مما يُشير إلى ميل الناخبين مع طواحين السـُلطة والإقطاع والمارونية السياسية مهما كانت ، ناهيك عن إنتقال الكثيرين لاحقاً إلى مواقع أُخرى ، بقدر ما تعنينا التطورات التي تلتـها والتي كان محوّرُها الأسـتاذ عادل عسيران ، الذي إنتُخب رئيساً للمجلس النيابي ، فذلك القـومي العـربي الإستقلالي ، رفيق درب الرئيس رياض الصلح وشكري القوتلي ، والذي أيّد الرئيس جمال عبد الناصر، في وجه العـدوان الثلاثي "تشرين الثاني 1956 ، وأيّد وحـدة مصر وسوريا، في شباط 1958، كان في قيادة الموالاة للرئيس شمعون وتعاون كرئيس للمجلس النيابي مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ، إنتُخب عادل عسيران رئيساً للمجلس في 13 آب 1957. وخلال أحداث 1958 إحترم الدسـتور اللبناني ورفض المـسّ به أو العمل ضُدّ ثوابت الكيان اللبناني وضُدّ المؤسسات والممارسة الديمقراطية ، وهو إلتقى الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق في آذار 1958، ونُقل عنهُ قـولهُ ، أنهُ يُحب لبـنان ولا يُريد زوالهُ أو تهـديد إستقرارهُ . وفي نيسان 1958 أمضى الرئيس عادل عُسيران عطلة الأعياد في القاهرة ، وألقى فيها تصريحات عن لبـنان والوحـدة العـربية والعلاقات المميزة مع مصر، وحين إندلعت الحوادث المشؤومة ، رفض الرئيس عادل عُسيران ضغوط زُعماء الشيعة للإستقالة قائلاً : أنُّه لا يُريد المساهمة في إحداث فراغ سـياسي ودسـتوري وأنّ مـوقعهُ ودوره مُهـمان للخروج من الأزمة بتسوية ولقيام إنتخابات رئاسية جـديدة وقد إستقال رشيد بيضون في أواخر أيار 1958 من حكومة الرئيس سامي الصلح ، وذلك تحت ضغط الشارع ، علماً أنهُ كان رفض المشاركة في الثـورة ودعا إلى وقف العُنف والقتال لأن ما يحصل يُهـدد وجـود لبـنان ، وقد وقفوا موقفـاً مماثلاً وذهبوا إلى حـدّ تأييد شـكوى لبـنان ضدّ الجمهورية العربية المتحدة أمام مجلس الأمن ، وحين حصل الإنزال الأميركي على شـواطئ بيروت في 15 تموز 1958 أبرق الرئيس عادل عسيران إلى الأمين العام للأمم المتحدة "داغ همرشولد " مُعتبراً العمل الأميركي العسكري عـدواناً ضُدّ سـيادة لبـنان وإستقلاله ، وكان الشيخ محمّد جواد مغنيّة ، قد هاجم الرئيس عادل عسيران واتهمـهُ بالسكوت والصمت ، أو بعدم الوضوح ، في حين وقـف معظم علماء الشـيعة مترددين : فهـم من ناحـية ضُدّ سـفك الدمـاء ، ومع الإستقرار ووحدة لبـنان ومع العروبة والممانعة ، وهـم من ناحيـة ثانية على علاقة بمرجعيتي النجف الأشرف وقُـمّ المقدستين .
والنزاع حقيقةً كان بين مصر الناصرية ، والعراق الهاشمي ، وفي 3 حزيران 1958 صدر بيان علمائي يدعو إلى وقف القتال والعـودة إلى الحال الطبيعية وصيغة التفاهُم والميثاق الوطني ، وقّعهُ جمع من السادة العلماء ، وفي آخر حزيران وجّـه عُلمـاء شـيعة رسـالة إلى الأمين العام للأُمم المتحـدة "داغ همرشولد" ، رحبـوا فيـها بتدخـل الأُمم المتحدة في الأزمة ، مع تأكيدهم على أنهـم كانـوا وما زالوا مع وجـود لبـنان بقـوة ، كياناً وشعباً ومؤسسات .
خلاصة هذا الإستعراض ، أنّ الوعـي الشـيعي لحظة وصول الإمام السـيّد موسى الصدر إلى لبنان كان يتشكّل من عدة عوامل متداخـلة : ( الإسـلام ، العروبـة ، الوطنية ، ولبـنان ) , وأنّ الرئيس عادل عسيران ، هو من جسّـد هذه العوامل المجتمعة ، في الشخصية الحقيقية للشـيعة في تلك المرحـلة ، ومن هنا نستنتجُ كيف أنّ قيادة حركة أمل حافظت على ارث المرحوم الرئيس عادل عسيران .
وتشير حوادث 1958 إضافة إلى الإنقسام السياسي الوطني والعربي بين الشـيعة " موالاة ومعارضة" " ناصرية وهاشمية " إلى بروز وعي جـديد وفئة جـديدة من المثقفين حملتها التجرُبة الشهابية الوليدة ، وهنا بالضبط كان مشروع الإمام السـيّد موسى الصدر على موعـد مع الحـالة التي أفرزتها أحداث ثورة 1958 . فقـد خسـر الرئيس عادل عسيران إنتخابات رئاسة المجلس أمام كامل الأسعد بتاريخ 15 آب 1959 الأمر الذي ساهم في التعجيل بعـودة الإمام السـيّد موسى الصدر من العراق مدينة النجف الأشرف ، وبـدء تحركهُ وانطلاق وتبلـوُر مشـروعه الإسلامي والوطني والإنساني ، بـدءاً من مديـنة صور ، وباختصار يمكن إيجاز الواقع اللبناني عام 1958 بما يلي :

1. إستمرار تفشّي داء الطائفية السياسية على كافة المستويات ، وخاصة الإداري واحتكار السلطة من قبل فئة لبنانية واحدة ، المارونية السياسية والإقطاع العائلي والقبلي الموروث .

2. إنقسام في الوحدة الوطنية ، ناتج عن المدّ القومي العربي من جهة ، والعصبية المارونية والإقطاع السياسي من جهة أخرى ، والتي تعتبر لبنان وطناً للطائفة والإقطاع السياسي المتحكم .

3. إنعدام الإنماء المتوازن ، وهو ما ترك آثاراً خطيرة في نشوء الفوارق الإنمائية الكبرى بين العاصمة وجبل لبنان من جهة ، وباقي المناطق اللبنانية من جهة اُخرى وخاصة بعلبك والجنوب .

4. شيوع الشعارات الحزبية والسياسية ، المُتطرفة والمؤدلجة ، والتي تختلف عقائدها من أقصى
اليمين إلى أقصى اليسار، حيث تُشـاد القوميـات على أرض لبـنان دون رادع أو أفق سياسي .

5. أثار نكبة فلسطين ديموغرافيـاً وأيديولوجياً وسياسـياً ، وإنعكاسها على الوضع الداخلي اللبناني مما ترك أثاراً خطيرة على القضية الفلسطينية .

إنّ كُل هذه المؤثرات وسياسة المحاور الإقليمية والدولية والخلافات العربية العربية ساهمت في تفجير أحـداث ثورة 1958 والتي لم تنتـه ، إلاّ بالإتفاق بين قوى خارجية أهمُها "مصر وسوريا والولايات المتحدة الاميركية " والتي أجبرت اللبنانيين على الإتفاق ضمن صيغة " لا غالب ولا مغلوب " وأصبح التدخُل للقـوى الخارجيـة في كُل الأزمات الداخليـة ، عُـرفاً في تـاريخ لبـنان ، تماماً كما حصل لاحقاً في إتفاق الطائف ، ومن ثم إتفاق الدوحـة ، وربما نحتاج إلى إتفاقات أًخرى مستقبلاً عند أي إستحقاق دستوري داخلي من يدري ذلك إخوتي الأعزاء ...